✍ #حسن_الكنزلي.
لقد صار في عصرنا الوصول إلى المعلومات أسرع وأسهل من أي وقت مضى، وهذا الانفتاح الكبير على مصادر المعرفة ربما خلق نوعا من الفوضى الفكرية؛ إذا لم يُقابله وعي وتدقيق. فكم من مرة صادفنا أشخاصا يتحدثون عن معلومات اكتسبوها من الإنترنت أو من وسائل التواصل الاجتماعي بثقة مطلقة، لكنهم في الواقع يسيئون فهمها أو يخلطون بين المفاهيم!
تجد أحدهم يقرأ مقالا علميا عن دودة “العلقة”، ويرى صورة لهذه الدودة، ثم يخلط بينها وبين كائن آخر يعرفه محليا في بعض المناطق باسم “الحلبوب”. ومع أن الفرق بين الكائنين شاسع، فإن هذا الشخص يقف على أرضية غير ثابتة من المعرفة، ويتصرف كخبير لا يخطئ. مثال آخر يحدث عندما يجد أحدهم معلومات عن نبات “الأرقطيون”، ويرى صورته، فيخلط بينه وبين نبات معروف محليا باسم “اللزيق” الذي يعتبر آفة زراعية ضارة لا فائدة لها. هنا يحدث خلط بين نبات مفيد وآخر ضار، على الرغم من الاختلاف الجلي بينهما في الشكل والخصائص.
وصارت المسألة أشبه بشخص ينظر إلى “صينيا” ثم يظنه “أفريقيًا”، أو العكس، متجاهلا الفروقات الثقافية والجسدية الواضحة، وهذه المقارنات قد تبدو مضحكة، لكنها تعكس مشكلة عميقة في كيفية تعاملنا مع المعلومات وفهمها.
المشكلة الحقيقية ليست في الخلط بين المفاهيم فقط؛ بل في الجرأة على نشر هذا الفهم الخاطئ بثقة مطلقة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كثيرا ما نرى مَن ينشرون معلومات مغلوطة، مصحوبة بصور أو مقاطع فيديو، و يبدون كخبراء موثوقين؛ بل ويتعاملون مع آرائهم وكأنها حقائق لا تقبل الجدل. وهنا يظهر تحدٍ آخر؛ يتمثل في كوننا مستهلكين لهذه المعلومات؛ غالبا ما نتلقى كل شيء بتصديق سريع دون تثبت أو تمحيص، مما يؤدي إلى انتشار واسع للمفاهيم المغلوطة.
وثمة أسباب تجعلنا نقع في فخ التصديق السريع للمعلومات المغلوطة، منها:
– الثقة العمياء في وسائل التواصل الاجتماعي؛ فمنصات التواصل الاجتماعي تمنح الأفراد فرصا للتعبير عن آرائهم ومشاركة معرفتهم. وهذا يخلق انطباعا زائفا بأن كل من ينشر شيئا هو خبير في مجاله.
– السطحية في القراءة؛ فنحن غالبا ما نقرأ بسرعة دون التركيز على التفاصيل. فبمجرد رؤية صورة أو عنوان مثير، نظن أننا فهمنا الموضوع بالكامل، متجاهلين الجوانب العلمية أو التحليلية العميقة.
– كما أن تدفق المعلومات بشكل مستمر يجعلنا نميل إلى قبولها بسرعة دون فحص أو مقارنة، خاصة عندما يكون هناك ضغط من الوقت أو شعور بالرغبة في مواكبة الآخرين.
إن الفهم الخاطئ للمعلومات ربما يترك آثارا سلبية على الفرد والمجتمع، ومن هذه الآثار السلبية المحتملة -إن لم تكن مؤكدة-:
– تشويه الحقائق العلمية؛ فعندما يتم نشر المعلومات الخاطئة على نطاق واسع، تصبح جزءا من الثقافة العامة، ويصبح من الصعب تصحيحها.
– اتخاذ قرارات خاطئة استنادا إلى معلومات مغلوطة؛ فقد يتخذ أحدنا قرارات تتعلق بالصحة أو البيئة أو حتى الحياة اليومية، مما يؤدي إلى عواقب سلبية.
– ضياع الحقيقة في بحر من المعلومات الزائفة؛ فتصبح الحقائق العلمية الدقيقة أقل وضوحا، مما يؤثر على قدرتنا على اتخاذ قرارات صائبة.
إن التعامل مع هذه الظاهرة يحتاج إلى وعي وجهد مشترك منا كأفراد ومن المجتمع؛ يحتاج إلى:
– التحقق من المصادر؛ وهذا يوجب على كل منا تحري الدقة في المعلومات التي يقرأها، و يتأكد من مصدرها و مصداقيتها قبل نشرها أو تبنيها.
– التعليم المستمر، من خلال السعي الدائم لتطوير معرفتنا، وفتح الحوار مع الخبراء والمختصين، وعدم الاكتفاء بالمعلومات السطحية.
– الوعي النقدي، أي علينا تطوير قدرة التفكير النقدي، بحيث لا نقبل أي معلومة دون تفكير وتحليل، ونتعلم كيف نفرق بين الحقيقة والوهم.
– الانفتاح على التصحيح، وعدم التحرج في الاعتراف بالخطأ؛ بل نعده دليلا على النضج الفكري، فعندما نكتشف أننا أخطأنا في فهم شيء ما، يجب أن نكون على استعداد لتصحيح أنفسنا وتصحيح المعلومات التي نشرناها.
خيرا علينا أن نعلم أن المعلومات هي سلاح ذو حدين؛ يمكن أن تكون مصدرا للتنوير أو مصدرا للتضليل. والفهم الخاطئ ليس عيبا؛ لكنه يصبح خطرا عندما يتحول إلى يقين زائف يُبنى عليه قرارات وأحكام؛ لذا نحن بحاجة إلى أن نكون أكثر وعيا و نقدا، وأن نتعامل مع المعلومات بحذر وتروٍ، حتى نميز الحقيقة من الوهم و نتجنب الوقوع في فخ التصديق السريع.
والله -تعالى- أعلم! وهو الهادي إلى سبيل الرشاد.